
شوقي بزيع وجهاد فاضل
نزار قباني: الشعر معادل الحياة، والجسد قبَّة الروح
شاعر المرأة لا شاعر الأمة
جاء نزار قباني إلى العالم في الحادي والعشرين من مارس “آذار” عام 1923 م، ورحل عنه في نهاية أبريل “نيسان” عام 1998 م، خمسة وسبعون عاماً بالتمام والكمال هي مجمل رحلته المليئة بالأحداث والمفتوحة على المغامرة، رحلة استهلها بالربيع وختمها بالربيع، كان يمكن للتاريخ أن يكون مجرد مصادفة بين ملايين المصادفات لو أن الشخص المعني بالأمر لم يكن نزار قباني، فنزار جعل من حياته كلها ربيعا مثمرا وموازيا لحياته وموته، لقد نقل المصادفة إلى مرتبة الضرورة وراح يضيع من شعره وتجربته وطريقة عيشه ذلك الربيع الآخر الذي لن تئول زهوره هذه المرة إلى الذبول.
أول ما يتبادر الى الذهن عند رحيل شاعر ما، وبعد انفضاض الغبار الناجم عن حضوره الشخصي في العالم، هو السؤال عما إذا كان قد استطاع أن يدفع العالم مترا واحدا الى الأمام، أو استطاع أن يغير هذه الكرة التي حملته على ظهرها سنوات طويلة قبل أن تبتلعه من جديد، أو استطاع أن يغير شيئا في الذائقة الشعرية ويضيف لمسته الخاصة إلى هذه الأرض المتعبة من الدوران، فالشاعر الحقيقي هو راء كبيرا وهو خالق نماذج ورائد تغيير وإلا لكان مجرد حادثة عابرة على طريق الموت.
لهذا السبب رأى الشاعر والناقد الإنجليزي ت.س اليوت أن الشعراء العظام لا يأتون إلى هذه الأرض إلا مرة كل قرن أو أكثر وسمى من بين هؤلاء قلة نادرة كهوميروس وفيرجيل ودانتي وشكسبير وغوتة وبوشكين، وذلك أن الشعر في بعده العميق هو تعبير عن روح الأمة وإعادة صياغة مستمرة لوجدانها ورغبتها في التجاوز والانعتاق، وما لم يسهم الشاعر في هذه الصياغة وذلك التعبير فلن يكون سوى واحد من الشعراء المتواضعين أو النظامين الصغار الذين يلمون بقواعد النظم كما يلم النحاة بقواعد اللغة امتلاك للنار التي سرقها بروميثيوس من الآلهة أساطير اليونان.
الشاعر الحقيقي بهذا المعنى هو مفجر لغة وصانع أشكال ومغير أذواق وليس مدبج عبارات وموضوعات إنشاء وقصائد مناسبات تكتب تحت الطلب وتكتفي من الثمرة بالقشرة ومن النفوس بالطرب الخارجي ومن الأيدي بالتصفيق.
مؤثرات عابرة
لهذا السبب ربما يحتاج الشعر إلى فترة زمنية معقولة لكي يحكم له أو عليه بعيداً عن المؤثرات السطحية العابرة، وعن الحضور الشخصي للشاعر ينبغي على الشاعر أن يتوارى قليلا وأن يسحب حضوره من التداول لكن يتقدم شعره إلى ساحة التقويم والنقد عارياً من أي بهرجة أو زوائد، خاصة في هذا الزمن الذي تضيع فيه المعايير وتسود الفوضى وتتعرض ساحة الشعر للانتهاك والبلبلة وفساد القيم واختلاطها بشكل لم يسبق له مثيل، وهو ما أسهم بالإضافة إلى عوامل أخرى لا سبيل إلى ذكرها الآن، في انفضاض الناس عن الشعر ولا مبالتهم إزاءه، ذلك أن معظمهم لم يعد يرى في ما كان ذات يوم ديوان العرب صورته ومثاله وملاذه من الجفاف واليأس، ولكن نزار قباني، على النقيض من هذه الصورة، استطاع ان يشكل ظاهرة فريدة سيحتاج النقاد والدارسون الى سنوات طويلة لكي يتبينوا معالمها ويقفوا على سر علاقتها النادرة بالجمهور، ففي زمن عزلة الشعر وانحساره، وفي زمن يكاد الشعراء يصبحون فيها أيتام قومهم يتقدم نزار قباني ليحتل واجهة المشهد بكاملها ويحلق حوله الملايين من الشعراء والمتابعين والمعجبين من كل المشارب والأعمار والطبقات والشرائح. قد يقول قائل هنا بأن الرواج ليس بالضرورة رديف الجودة والأهمية في كل الأوقات، ولكن الرواج بالمقابل ليس دائما رديف الرداءة والسطحية والاستهلاك العابر، يقول قائل آخر. وبين هذا القائل وذاك استطاع نزار قباني أن يملأ الدنيا ويشغل الناس على امتداد ما يزيد على نصف قرن كان خلالها أحد أكثر الناس إقلاقا وإثارة للجدل وخضا لمياه هذه الحياة العربية الراكدة.
هل يمكن والحالة هذه أن تكون ظاهرة نزار قباني مجرد ظاهرة آنية عابرة؟. هل موضوعة الجنس وحدها هي التي رفعت الشاعر إلى الذري التي بلغها وأنزلت شعره عن رفوف المكتبات وأكوام الغبار لكي يتوسط المقاعد والأسرة والصالونات وينام تحت ملايين الوسائد؟، ولماذا لم تستطع خمسون عاما من الحروب والثورات والانقلابات والكوارث العربية أن تسقط نزار قباني عن عرش الشعر وأن تثبت راهنيته وبطلانه وعزفه على وتر الغرائز، فيما لو صحت هذه التهم؟، هل شعر نزار قباني نجمة تزداد الحاجة إلى لمعانها كلما قدمت أم هو مثل بعض الصحون والكئوس التي تقدم فيها الوجبات الأمريكية السريعة مرة واحدة ثم ترمى بعد ذلك في سلة المهملات؟ لا شك بأن رحيل نزار قباني سيفتح الباب على مثل ذا الأسئلة وغيرها بعد أن استنفدت التجربة بالكامل وانطوى صاحبها وراء الغياهب والحجب تاركا لنا أن نقوم شعره بحيادية ونزاهة بعيدا عن النفاق المرائي أو العداء الأعمى، ولست أزعم في هذه الحالة أنني سأجيب عن كل هذه الأسئلة التي تتطلب قراءات وأبحاثا طويلة ولكن ذلك لا يمنع من مقاربة أولية لأبعاد هذه التجربة التي انطبعت كالوشم على جسد الحياة العربية المعاصرة.
تغيير مؤثر
بادئ ذي بدء أشير في إجابة على السؤال المطروح في بداية المقالة، إلى أن العالم العربي بعد نزار قباني ليس هو نفسه العالم الذي كان قبل ولادته، لا المرأة هي نفسها ولا الرجل، لا التلميذة ولا العاشقة، لا اللغة ولا القيم، ثمة شيء تغير بالطبع، وإذا كان العصر برمته قد أسهم في حدوث هذا التغير فإن حصة نزار مما حدث كبيرة ومؤثرة دون شك. كانت المرأة العربية قبل نزار أقل جمالا مما هي عند رحيله، لا بالمعنى السطحي للكلمة بل بالمعنى الرمزي والعميق، فشعره ومواقفه الجريئة أعادا الاعتبار للجسد الإنساني وعملا على تحريره من الخوف والبشاعة والعجز المتراكم، إذ إن الجسد مع نزار لم يعد نقيصـة أو معصية أو محلا، للإثم وحده، بل أصبح كما رأى القديس بالاماس “قبة الروح” وتاجها الأجمل، أو هـو “خيمة الروح” وفق تعبير المتصوف الإسلامي الشهير جلال الدين الرومي، هذا الإعلاء للجسد هـو الإنجاز الأهم لنزار قبانى، بعد إنجاز اللغة، ولا يمكن بالتالي قراءة شاعر”طفولة نهد”، و”قالت لي السمراء” خارج الرؤية الأبيقورية التي فتحت المجال واسعا أمام الفرح والبهجة وتركتهما يتسللان إلى قلب القصيدة العربية المثخنة بالحسرات والندب المتواصل، أما الذين لا يرون في شعر نزار قباني سوى التركيز المستمر على عناصر الإثارة ودغدغة الغرائز والشهوات فهم يظلمونه بالطبع لأنهم لا يرون من تجربته سوى سطحها ينتقون من مفرداته سوى ما يلائم نظرتهم الأخلاقية الى الشعر. وهذا النوع من التعامل التشريحي معطوفا على المعيار الأخلاقي المرتبط بالأيديولوجيا الدينية سيفعل بالقصيدة ما يفعله الديناميت في البحر وستطفو المفردات “الإباحية” كالنهد والبطن والردف والساقين وغيرها كالسمك الميت علي سطح الكتابة ذلك أن تجريد هذه المفردات من سياق التجربة النزارية القائمة على تحرير الجسد من لواحق المكبوتات والتابوهات وسائر القيود والأغلال سيجعلها تبدو نافرة بالطبع ويحصرها بالتالي في دائرة الإثارة السطحية ودغدغة المشاعر.
كما أن إسقاط الأحكام الأخلاقية على الأدب وجعله مقياسا لجودته وأهميته تدفع بمعظم التراث العربي إلى سلة المهملات وتعدم القسط الأكبر من نتاج “أمرئ القيس، وعمرو بن أبي ربيعة والوليد بن يزيد وأبي نواس وغيرهم الكثيرين من عمالقة الشعر العربي، وهو أمر لم يسمح الأسلاف بحدوثه حتى في أكثر المراحل تزمتاً وحراجة، لقد كان آباؤنا واسعي الصدر أكثر بكثير مما نحن عليه اليوم، إذ أليس من اللافت أن يتسع صدر هؤلاء الأسلاف لشاعر ماجن وعاشق متجرئ كعمر بن أبي ربيعة فيما الإسلام لا يزال في قمة صعوده وازدهاره؟. أوليس من اللافت أيضاً أن تغص كتابتنا العربية شعراً أو نثراً بشتى صنوف الموضوعات والتعابير الإباحية والمكشوفة والتي نراها مبثوثة في كتب ألف ليلة وليلة ونزهة المشتاق والروض العاطر وأشعار أبي وبشار وصولا إلى كتابات المحافظين كالجاحظ أبي حيان التوحيدي!. إن الأدب في جوهره قائم على تحرير المكبوت وإطلاقه من عقاله وعلى تفخيخ الوعي وتفجيره من اجل الكشف عما يقبع تحته من طبقات اللا وعي والمسكوت عنه من الرغبات والنوازع. من هنا اسهمت الثورة الفرويدية اشد الإسهام في التخلص من الممنوع وفي نبش خرائب الروح وإطلاق ثورة الجسد حتى نهاياتها، وقد أسهمت الحربان العالميتان الأولى والثانية في تأجيج هذه الثورة وفي تأمين الرياح المناسبة لوصول النار إلى آخر منطقة في هشير الرغبات الكامنة، وقد كانت الحداثة الشعرية العربية إحدى نتاجات هذه الرياح التي صوبت العالم بأسره وخلخلت قيمه السائدة، لكن المتابع لهذه الحداثة سيلفته دون شك خلوها من الحب إلى حد بعيد وتمحورها حول الثورة والانبعاث، أو سمي بالنزعة التموزية يومذاك، جاءت تجربة نزار قباني في تلك الفترة مترافقة مع صيحات الحداثة الأولى التي أطلقها بدر شاكر السياب ونازك الملائكة عبد الوهاب البياتي وآخرون غيرهم، وبرغم أن هذه التجربة نحت منحى مستقلا ومختلفا على مستوى لهم والقضية والشكل فقد كانت في جوهرها استكمالا لتجربة الحداثة العراقية ومحاولة لسد النقص الناجم عن غياب موضوعة المرأة والجسد والحب عن القصيدة العربية الحديثة، فنزار رأى أن لا حداثة حقيقية وعميقة في ظل احتجاب المرأة وتغييبها، وأن لا حرية كاملة إلا بتحرير الأنوثة والكف عن اعتقالها بدواعي القيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية، وظل نزار قباني أمينا لمشروعه ال شعري والرؤيوي حتى الرمق الأخير من حياته.
مفهوم الشعر
وبالعودة إلى الأبعاد الجسدية في شعر نزار قباني تنبغي الإشارة إلى أن هذا البعد لا يتصل بالجسد الأنثوي وحده بل هو جزء لا يتجزأ من مفهوم مميز للشعر يبتعد عن التجريد الذهني والعمليات الفكرية الباردة التي تتولد عن احتكاك اللغة بنفسها لا عن احتكاكها بالحياة، في حين أن نزار يميل الى جسدنة الصور وحقنها بالمشاهد الحسية القابلة دائما لان ترى بالعين وتسمع بالأذن وتشم بالأنف وتلمس بالأنامل. إنه يكسو عباراته دائما باللحم والدم ويمدها بأسباب الحياة وكهرباء اللحظة المعيشة فنحس لها دبيباً في أوصالنا شبيها بدبيب الخمرة في قصيدة الأخطل، لذلك ثمة فرق كبير بين رؤية سعيد عقل لجسد المرآة ورؤية نزار قباني للجسد نفسه، فالأول يخاطب جسداً لا يقيم إلا في الأفكار والذهن البارد والمجرد والثاني يرى الجسد في أدق تفاصيله ويتناوله بحواسه الخمس ورغباته الإنسانية الحقيقية. على أن صورة المرأة عند نزار لا تنحبس داخل إطارها الجسدي الشهواني كما يرى البعض فهي كثيراً ما تخرج من بعدها البيولوجي الصرف لتدخل في أبعاد كونية متشعبة وتتداخل ظلالها الرمزية مع كائنات العالم وأقاليمة وأشيائه. تصبح رمزا لحضارات وقيم وتواريخ وتتخالط وجوهـها مع وجوه المدن التي تسكنها أو تتوحد بها في حالات الوجد والانحطاط، أو يتداخل جسدها الأنثوي بأنوثة اللغة نفسها في حوار غريب ومدهش بين الكلمات والأعضاء وبين الزمان والمكان.
تغيير الذائقة
غير أن شعبية نزار قباني لا تتغذى من براعته في استخدام الصورة ولا من دغدغة موضوعاته للمكبوت الجمعي الذي يضغط بكل قوة على مشاعر البشر ويشل الكثير من طاقاتهم وقدراتهم بل ثمة عوامل أخرى لا تقل أهمية وتأثيرا عن هذين العاملين، وتأتي اللغة الشعرية في طليعة هذه العوامل، فكما أدسهم نزار في تغيير الذائقة الجمالية وفي رفع منسوب الأنوثة والجمال إلى حدودهما القصوى فإنه أسهم بالقدر نفسه في تخليص اللغة الشعرية العربية من التقعر والبلادة القاموسية الجامدة والتكلف اللفظي وجعلها أكثر طواعية ودفئا مما كانت عليه، فلغته أيضا هي على النقيض من لغة سعيد عقل لم تتغذ من إقطاعية محافظة وصارمة بل هي تعبير عن التململ الاجتماعي الذي أدى إلى صعود البرجوازية وتسنمها سدة الحكم ومقاليد الاقتصاد والثقافة مع كل ما رافق ذلك من بلورة لمفاهيم الديمقراطية والحرية والتنوع الثقافي.
أصبحت لغة نزار قباني بهذا المعنى لغة الحياة اليومية بكل ما تحمله من تعبيرات ومواقف ومفارقات، إنها لغة المقهى والشارع والحانوت وسيارة الأجرة بقدر ما هي لغة الثقافة والفكر وقيم العصر.
لقد أزال نزار قباني الحواجز بين الشعر والنثر، وبين ما كان يعتبر في السابق لغة شعرية وما كان يعتبر من عدة النثر وعديده. هكذا دخلت الحياة كلها إلى القصيدة، الحياة بقضها وقضيضها، بعمالها وفلاحيها وطلابها ومثقفيها وتجارها وغليان شوارعها اليومي، ولم يعد الشعر مقتصراً على ارستقراطي الوجاهة والثروة والثقافة بل بات كما أراده نزار رديفا للخبز والهواء والحرية، وباتت القصيدة تتسع لألفاظ ومفردات كانت تعتبر حتى وقت قريب سوقية ومبتذلة مثل: المنافض، الولاعات، الجرائد، الموكيت، الأنابيب، الكومبيوترات، وغيرها من أدوات الزينة والعطور والملابس والمأكل، من هنا يمكن أن نفهم قول نزار في إحدى مقالاته: “كانت لغة الشعر متعالية، متعجرفة، بيروقراطية، بروتوكولية، لا تصافح الناس إلا بالقفازات البيضاء ثم رفعت الكلفة بيني وبين لغة “لسان العرب” و “محيط المحيط””.
هذه الثورة اللغوية التي قادها نزار قباني هي مكنته من احتلال موقعه المميز في حركة الشعر الحديث ومن ترك بصماته الخاصة على القصيدة العربية، وإذا كانت هذه الثورة قد تقاطعت مع الحداثة الأخرى الموازية التي اشترك في صياغتها شعراء آخرون كأدونيس والسياب والبياتي وحجازي وعبد الصبور وأنسي الحاج والماغوط ودرويش وغيرهم فإن نزار قباني احتفظ لنفسه بمسافة عن كل هؤلاء حين قاد حداثة بعيدا عن النخبوية والتعقيد والكشوف الداخلية الصعبة ونحا بها إلى لغة مبسطة ومفهومة تستفيد كثيرا من لغة المشافهة والخطاب اليومي، لقد أراد نزار أن يقطف مباشرة من أفواه الناس وأحاسيسهم مما جعله يمشي عكس التيار ويأخذ موقفا معاديا من مسألة تفجير اللغة والإيغال في الإبهام والتعمية، وهو ما يفسر بعض التشنج الذي حكم علاقات الشاعر بالعديد من مجايليه أو ممن جاء بعده من الشعراء والنقاد المحدثين الذين اتهموه بالسطحية والمباشرة واللعب على مشاعر الجماعة، وأتهمهم بدوره بالمغامرة المجانية وقلة الموهبة وحتى بالإرهاب في بعض الأحيان يقول نزار: “إنني مع الولادة الطبيعية وضد العمليات القيصرية، اللغة تتطور يوميا وبشكل طبيعي بإمكاننا أن ننسف لغة كما ننسف وإلا اصبحنا إرهابيين”، والطريف أن مفهوم نزار للغة يلتقي عن عمد أو غير عمد مع مفهوم ت. س أحد أبرز رواد الحداثة الغربية ومنظريها، الذي يرى أن “على الشعر أن يعين لا على صقل لغة العصر فحسب بل على الحيلولة دون تغيرها بسرعة مفرطة فإن تطور اللغة بسرعة كبيرة إلى حد الإفراط سيكون تطورا بمعنى التدهور التقدمي”.
منمنمة شعرية
إضافة إلى ما تقدم يشكل الإيقاع وطريقة استخدام البحور والأوزان والتقفية عناصر بارزة في لملمة القصيدة القبانية ومنعها من التشتت والتشظي عبر تحويلها إلى ما يشبه المنمنمة الشعرية، وقد يعود الفضل في ذلك، إضافة إلى الموهبة بالطبع، إلى طفولة الشاعر الذي شغف منذ نعومة أظفاره بفني الرسم والموسيقى، كما يروي بنفسه في كتابه. “سيرتي مع الشعر”.
كان نزار شغوفا بالعزف إلى حد الولع وكان يمرن أنامله باستمرار على بعض الآلات الشرقية الموجودة في بيت العائلة في دمشق قبل أن يجد ضالته في الشعر دون سواه، اذ لعله رأى أن الشعر هو فن الفنون وأنه يتضمن فيما يتضمنه الرسم والموسيقى والنحت والتصوير والتمثيل، وهي فنون عرف الشاعر كيف يفيد منها جميعا ويوظفها في شعره. والإيقاع وفق مفهوم الشاعر ليس وقفا على اختيار البحر أو الوزن فحسب بل هو مناخ شامل ينسحب على الداخل كما على الخارج ويعكس طبيعة التجربة في انفراجها أو توترها، في بساطتها أو تركيبها، في فرحها أو شجنها، ذلك أن نزار يرى في الشعر “رقصا باللغة”، كما يعبر في إحدى مقالاته، ويراه في مناسبات أخرى نوعا من “الموسيقى المقروءة” أو “الضوء المسموع “، وهي آراء تجد مصداقيتها وتعبيراتها في سائر أشعار نزار قباني الذي عرف كيف يفيد من روح المكان الذي نسب إليه وأصغى إلى أدق مخلوقاته وبخاصة في دمشق وبيروت حيث تختلط نداءات الطبيعة الأم بصراخ الباعة في الأسواق، كما تختلط نداءات المآذن بأجراس الكنائس وتتكامل الأصوات مع أصدائها المترامية في كل تجاه لتؤلف أنواعا شتى من الزركشات الصوتية المتصلة بشغاف الروح، لهذا لم يحصر نزار قباني إيقاعه في بحور قليلة بل تنقل برشاقة بين بحور المتدارك والمتقارب والكامل والوافر والرجز، في قصائده التفعيلية الحرة، في حين أن قصائده العمودية انفتحت على سائر البحور الأخرى المتنوعة التفعيلات، وشأنه شأن جده الأول عمر بن أبي ربيعة فقد مال نزار باتجاه البحور الرشيقة الراقصة التي تقرب شعره من روح العصر ومن الذوق مبتعداً عن الجلجلة اللفظية الطنانة والنزوع الإنشادي الملحمي الذي لم ير مبررا له في عصر الكمبيوتر والأقمار الاصطناعية والوجبات السريعة، لذلك لا نرى في شعر نزار انجرافا وراء ألمغامرات الشكلية المستحدثة ولم يمل نحو القصيدة المدورة أو القصيدة المرسلة التي تتتابع أبياتها دون توقف من البداية إلى النهاية، أو قصيدة التغريب والهذيان، وبم غم أنه كتب قصيدة البيت الواحد والقصيدة المختزلة وقصيدة النثر فإن طبعه العام ظل يميل إلى المحافظة والتشدد كي لا يصبح الشعر ساحة سائبة لا تحكمها الحدود والضوابط والقواعد.
التقاط الأنفاس
إن لتركيب القصيدة النزارية وحسن هندستها الفضل الأكبر في اجتذاب المغنين والمغنيات إلى هذه القصيدة ورغبتهم في أدائها الغنائي، وهو ما يفسر اندفاع المغنين الجدد باتجاه قصائد الشاعر ومقطوعاته التي تنسجم إلى حد بعيد مع مفهوم الأغنية المعاصرة وطبيعتها، فالقصائد مواقف وحالات إنسانية تتوزع بين العواطف المختلفة كالحب والهجر والصد والغدر والوفاء والخيانة والملل والشغف والتصميم والتشكيك والصراع الداخلي والمواجهة مع المجتمع أو القدر وكل ما تتمخض عنه الحياة الإنسانية من أوضاع، والقصائد مقطوعات يبرع الشاعر في دوزنتها وتقسيمها واختيار قوافيها الداخلية والخارجية وفي عدم إطالة سطورها وأبياتها مما يسهل على المغنين التقاط أنفاسهم والتحكم بطبقاتهم الصوتية، كما يعمد الشاعر الى تكرار الصيغ والجمل المي تسهم في تأكيد المعنى من جهة وفي خلق مساحات صوتية متماثلة تتحول عند المغنين إلى لازمة غنائية لا بد منها.
ثمة ميزة أخرى يمكن الإشارة إليها في سياق الحديث عن شعر نزار قباني وهي تتعلق بالبنية القصصية لهذا الشعر الذي عرف صاحبه كيف يوظف الحكاية والقصة القصيرة بمهارة وكيف يفيد إلى أبعد الحدود من عناصر السرد والأخبار والحوار والقص، فالقصيدة النزارية لا تنبني حول الأفكار والصور الجمالية المبهمة والمجردة، بل حول البشر والعلاقات الإنسانية والحيوات المسكونة باللحم والدم، وأعتقد أن جزءا من حيوية هذه القصيدة يعود إلى ترابطها العضوي وتآلف عناصرهـا عبر ذلك الخيط السردي الذي يمدها بأسباب التشويق والإمتاع ولفت اهتمام القارئ.
بعيدا عن الشعر السياسي
لم تتطرق هذه المقالة إلى الشعر السياسي عند نزار قباني لأن ذلك يتطلب مقالة أخرى منفصلة، خاصة وأن هذا الجانب من تجربة نزار أثار الكثير من اللغط والمواقف المتباينة لكنني أعتقد أن كلا من الشعر السياسي والعاطفي عند الشاعر يصدران عن حركة احتجاجية واحدة وعن نغمة واحدة على الواقع المتردي وسعي إلى فضحه وتعريته. ومع ذلك فإن قيمة نزار الأساسية في رأيي، هي في قصائده العاطفية وفي موضوعة المرأة والحب التي احتلت كيانه إلى حد بعيد، صحيح أن قصائده السياسية انشغلت بهجاء الواقع العربي والنقمة عليه ولكن هذه القصائد صيغت من الأدوات نفسها التي صيغت بواسطتها قصائد الحب، سواء على مستوى التقنية والتركيب والسرد الإخباري وتلوين الجمل أو على مستوى اللغة والمفردات، كان يمكن لقصيدة “خبز وحشيش وقمر” المميزة أن تشكل أساسا لحركة اعتراض عميقة لدى الشاعر لا على صعيد الرؤية السياسية فحسب بل على صعيد المعالجة الفنية والدينامية الداخلية للصور والأحاسيس ولكن القصائد السياسية اللاحقة ظلت تدور حول الخطاب الهجائي نفسه بدلا من المتابعة الداخلية لحركة الواقع والبحث عن الخلل العميق الذي يضرب الذات العربية في صميمها.
الأمر الأخير الذي أريد الإشارة إليه هو تجربة نزار كفت عن تجديد نفسها منذ حوالي العقدين من الزمن بحيث أن ما كتبه الشاعر في السنوات الأخيرة ليس سوى استعادة مجردة لما تم إنجازه من قبل، كانت الموضوعات نفسها تتكرر في كل قصيدة أو مجموعة وكذلك كان الأمر بالنسبة للصورة أو اللغة أو التركيب بحيث أن جل ما قرأناه منذ أواخر السبعينيات بات مراكمة كمية لا تضيف الكثير إلى تجربة الشاعر التي وصلت إلى اكتمالها قبل عشرين عاما، غير أن ذلك لا يضير الشاعر في شيء لأنه استطاع خلال سني تجربته الأولى أن يوقع تحت العبارة التي لا تشبه أحدا سواه، مؤسسا مدرسته ولغته وطريقته في التعبير التي حاول الآلاف ممن أتوا بعده ان يقلدوها دون طائل، وإذا كان إليوت قد اعتبر أن الشاعر يكتب في حياته كلها قصيدة واحدة فإن نزار قباني قد كتب هذه القصيدة بامتياز منذ سطر ديوانه الأولى وحتى رمق حياته الأخير.
نزار قباني
شاعر المرأة
لا شاعر الأمة
لو أراد الناقد أن يختزل عيوب أشعار نزارقباني في كلمات قليلة لقال إن شعرالغزل عنده هو عبارة عن قصيدة غزلية واحدة استمر الشاعر يكررها على مدى نصف قرن أو يزيد.
القصيدة عند نزار ذات طموح محدود، لأنها تقتصر في الأعم الأغلب على تصوير عراك مع نساء يسميهن قططا، لا يعسر على القارئ تصنيف عقولهن ومستوياتهن الاجتماعية. والمناخ السائد في القصيدة هو مناخ المباشرة والمراهقة ووصف محاسن المرأة حتى كأن الشاعر كتب هذه القصيدة وفي ذهنه باستمرار شطر بيت من قصيدة لعباس محمود العقاد يقول فيه : ” خير ما في النساء ساعة ضحك” والقصيدة مصرة على التزام منطقة الحواس وفورات الحواس، مع أن الشاعر كان جديراً وقد لقب بشاعر المرأة، بأن يتجاوز الحواس إلى أفق أرقى، بحيث يتحول شعره إلى أسئلة تمس جوهر العشق وإلى تجربة جوانية من نوع مختلف، وعلى النحو الذي نعرفه لدى كبار الشعراء قديماً وحديثا، أو- على الأقل- على نحو ما توصل إليه شاعر شرقي كلاسيكي هو محمد مهدي الجواهري، الذي ظل يكتب قصيدة الغزل التقليدية ، حتى التقى بسيدة فرنسية تدعى “أنيتا” فانفتح شعره نتيجة تجربة عاصفة معها على فضاءات مختلفة جذريا عن فضاءات شعر الغزل السابق عنده، إذ تحول من وصف للجسد والحس إلى وصف للعاطفة والروح.
ويمكن للناقد أن يلاحظ أيضاً، وبلا مشقة تُذكر، أن الشاعر استمر طيلة حياته ينوع على هذه القصيدة الغزلية الواحدة وكأنه “سيزيف” هذه القصيدة، المصلوب على بابها، التي ما إن يتركها حتى يعود إليها، وكأنها القصيدة الأقرب إلى ذاته والمفضحة عن تلاق دائم في هذه بالذات بين الذكورة والأنوثة، ولو في حالة شجار دائم وكروفر بينهما. ولا ننسى الإشارة إلى أن هذه القصيدة محكومة بنزوات صاحبها، لا ببوصلة ثابتة. فإذا عثر القارئ على فكرة هنا أو هناك تدعو إلى ترقية المرأة الشرقية ووصلها بالحضارة الحديثة، فهو عاثر على مشاهد لا تُحصى لشهريار شرقي رجعي متعامل مع المرأة على أنها متاع أو متعة لا أكثر.
ولكن بالرغم من هذه الفتوح، ومن النجاح الذي صادفه الشاعر في هذا اللون من الشعر الذي أشتهر به، وقد بدأه بديوانيه الأولين “قالت لي السمراء”، و”طفولة نهد”، فإنه لم يقنع بلقب شاعر المرأة، بل طمح إلى الظفر بلقب آخر هو لقب الشاعر السياسي، أو الشاعر القومي، دون أن يكون مهيأ لشروط هذا الشاعر الأخير وأولها التجربة والثقافة السياسية. ذلك أن الشاعر قضى ربع قرن من حياته موظفا في السلك الدبلوماسي السوري في الخارج بعيداً عن ساحات النضال وضرائبه. وعندما تخرج في كلية الحقوق بالجامعة السورية- وكان له من العمر 22 سنة- لم يكن عرف بأي نشاط وطني بين طلبة الجامعة. وتحمل مجموعته الأولى “قالت لي السمراء ” اهتماما بالصبايا لا بالقضايا، سواء كانت هذه القضايا سياسية أو غير سياسية. وبعد ثلاث سنوات على صدور هذه المجموعة تابع هذا النهج فنشر في القاهرة ديوانه “طفولة نهد” والعنوان يشي بمضمونه. إلا إذا استثنينا قصيدته في مدح الزعيم حسني الزعيم، قائد الانقلاب الأول في سوريا، وتعاملنا معها على أنها قصيدة قومية أو سياسية، وهي ليست كذلك، فما هي سوى تحية حارة وساذجة من موظف لرئيس بلاده نشرتها صحف دمشق في حينه وطواها الشاعر لاحقا فلم يضمها ديوان له.
إلى بيروت
وعندما ترك نزار قباني وظيفته كموظف دبلوساسي لبلاده في الخارج اختار بيروت مكانا لإقامته.- كانت بيروت في تلك الفترة مدينة مزدهرة اقتصاديا وتجاريا وفيها فسحة بلا حدود لحرية الرأي والقول. وفي غياب كلي أو شبه كلي للدولة أو للسلطة ازدهرت تجارة الطباعة والنشر وأمنت لمتعاطيها مداخيل مرتفعة. وفي هذه التجارة بالذات أدلى الشاعر نزار قباني بدلوه، فأنشأ في بيروت دار نشر وقفها كلها تقريبا على نشر شعره. ولأن الناشر هنا هو شاعر فقد أضاف إلى عطر الكلمات عطرا في الورق والغلاف والحروف فبات ديوان الشعر شاعريا في شكله، كما هو شاعري في موضوعه. ولكن لأن الشاعر هنا هو ناشر فقد قامت علاقة جزلية في ذاته بين القطبين المتنافرين في غاياتهما ومقاصدها، كان من مظاهرها إلحاح الناشر على الشاعر أن يكتب بغزارة التزاما بروزنامة نشر خاصة أن الشاعر كان فقد مدخوله المادي باستقالته من وظيفته. ولكن لأن لغزارة الإنتاج مساوئها، فقد بان في نتاج الشاعر قصور واضح ظهر في افتقار القصيدة إلى الرؤية الثاقبة ومعاودة النظر.
ولكن الشاعر سيبقى طيلة مرحلته اللاحقة لمرحلة بيروت حزينا على خراب بيروت وخراب مؤسساتها كلها، ومن ضمنها مؤسسته النشرية التي حولته إلى شاعر ثري. ضمنت بيروت للشاعر الخبرة كما ضمنت الثروة، فحق له أن يتعاطف معها في محنتها، وأن يترحم على ماضي أيامها وأيامه الزاهرات في قصيدته المشهورة : ياست الدنيا يا بيروت، ولو أن الكثيرين يجدون فيها من جهة، ملامح القصيدة الكيدية، لأن فيها تعريضا بالمدن العربية الأخرى ، وبالعرب الآخرين المسئولين- في رأيه عن خرابها، كما يجدون فيها الفجيعة بمكان، ضرائبية” كما سيعبر لاحقا أحد المسئولين اللبنانيين، ولكن أي مكان بعد بيروت ومرحلتها، يمكن أن ينبت المال، لا العز- كما كان المتنبي يشترط- هو مكان طيب.
ولكن الجوهي في كل ذلك أن أثر العجلة لا يخفى في قصيدة الشاعر البيروتية، وهي القصيدة التي ذاعت له أكثر من سواها. والشعر لا يسيء شيء إليه، كما يسيء اضطرار الشاعر لكتابته على عجل وعدم معاودته النظر فيه، طلبا لجمال القول في أبعد غاياته- كما كان يقول الشاعر أمين نخلة- ولا ننسى قولاً آخر عميقاً في هذا الباب لـ “بوالو ” في الفن الشعري لم يعره الشاعر عنايته، وهو في هذه الصناعة، أي الشعر، اجعل يدك تمر عشرين مرة، وملّس ونعّم. ثم ملّس ونعّم”.
ضعف القصيدة السياسية
على أن قصيدة نزار قباني الغزلية، البيروتية وغير البيروتية، إذا كانت تشكو من عيوب كثيرة أشرنا إلى بعضها آنفاً، فإن قصيدته السياسية تتضمن ضعفاً قاتلاً لاشفاء منه.
فقد ندر أن كتب قصيدة سياسية لم يسخر فيها من العرب شعباً وتاريخاً ومقومات. لم تخل قصيدة سياسية من الهزء بالبدو والبداوة والعرب الرحل، ومن التصوير الساخر المر لحياة العرب وعاداتهم وطرائق عيشهم وردود أفعالهم. وقد بدأ هذا النمط من الشعر عنده بقصيدة “خبز وحشيش وقمر” وهي قصيدة ضعيفة فنياً وغير مترابطة لم تكتف بإدانة صور من الحياة العربية الاجتماعية، بل تعدت هذه الإدانة إلى المس بالقيم وإلى احتقار الظروف المعيشية للناس عن طريق السخرية من بيوت الفقراء التي لا تصلها الأدوية.
في ليالي الشرق لما
يبلغ البدر تمامه
يتعرى الشرق من كل كرامة ونضال
فالملايين التي تركض من غير نعال
الملايين التي لا تلتقي بالخبز
إلا في الخيال
والتي تسكن في الليل بيوتاً من سُعال
أبدا ما عرفت شكل الدواء
الشاعر هنا يصف وضع ملايين العرب. وقد غسل من هذا الشعب. إن سخريته لا تخفى، تماماً كما لو أنه عالم اجتماع يهودي يتحدث عن عيوب الشخصية العربية ويدينها. ولا أعتقد أن أحدا منا يمكن أن يلوم عالم الاجتماع اليهودي فيما يصف. ولكن كيف لا يلام شاعر عربي يفترض أن يلتصق بشعبه ويحنو عليه عندما لا يطل على آلامه- أي آلام هذا الشعب- إلا من زاوية السخرية بأوضاعه المعيشية والاجتماعية، ناهيك عن السخرية بمعتقداته؟ والسؤال هو هل يفترض بالشاعر أن يلتصق بشعبه، مهما كانت، ظروفه الاجتماعية والمعيشية، أم أن يتبرأ منه انطلاقاً من قسوة هذه الظروف؟ ألا يعترف الشاعر بشعبه إلا إذا كان شعباً اسكندنافياً؟
ولم يجد نزار في يقظة الجزيرة العربية بعد تدفق النفط فيها قبل نصف قرن ما يلفت نظره سوى تلك الصور المقذعة عن العربي الذي يتلهى في عواصم الغرب بالنساء.
فمن يقرأ على سبيل المثال قصيدته الحب والدولار “الجزء الأول من أعماله الكاملة صفحة 445″، “أيا متشقق القدمين يا عبد انفعالاتك، ويا من صارت الزوجات بعضاً من هواياتك “. يجد أن عصر النفط العربي قابل للتلخيص عنده بهذا النموذج، مع أن هناك صوراً كثيرة مشرقة لم تلفت نظره إطلاقاً، منها توفر الجزيرة على نماذج أخرى مشرفة للعربي، على نخب لايمكن الحديث عن حاضر الثقافة العربية العربية والنهضة العربية دونها، وهي نخب ساهمت بشكل أو بآخر في تحويل الجزيرة من مناطق شبه صحراوية إلى مدن وبؤر حضارية.
دفتر النكسة
ويتابع الهزء بالإنسان العربي البسيط في قصائد كثيرة. ففي “هوامش على دفتر النكسة” يرسم صورة العرب كما يلي:
خمسة آلاف سنة
ونحن في السرداب
ذقوننا طويلة
نقودنا مجهولة
عيوننا مرافئ الذباب
وفي مدينة تونس يلقى عام 1980 قصيدة يعلن فيها أنه “متعب بعروبته ” ويتساءل: “فهل العروبةُ لعنةٌ وعقابُ” قبل أن يعلن تهويد مصر وكذب إمامها:
وليست مثل هذه اللغة في الهجاء أو الشتم مقتصرة على قصيدة هنا وقصيدة هناك، فطابع شعره السياسي هو هذه اللغة بالذات، إلا إذا مدح حاكماً أومسئولا عربياً “وقد مدح كثيراً دون أن يجمع مدائحه في كتاب”، فإن لغته ترق وتعذب. عندها يصبح الحاكم أو المسئول صمصاماً أو سيفاً أو “منصورا جديداً” أو واحدا من “النشامى”. ولعلنا لانبالغ إذا قلنا إن نصف المدائح التي قيلت في الرئيس العراقي صدام حسين قالها نزارقباني وكان يمهد لهاعادة بقوله: “يامنصورنا الجديد”.
وتمتلىء مجموعة شعرية له عنوانها “قصائد مغضوب عليها” بمثل هذه اللغة المجانية التي تصطنع الغضب والغيرة عن ظن من الشاعر بأنها ترضي الناس وتجعل منه ناطقاً باسمهم.
بلاد الجنون والصداع
ولا يتخلى لحظة عن وصف الشعوب العربية بما يصفها به عادة الباحثون الغربيون والإسرائيليون. فالبلاد العربية هي “بلاد الجنون والصداع والسعال والبلهارسيا” ومواطنوها “يركضون كالكلاب كل ليلة من عدن لطنجة ومن طنجة إلى عدن”.
ويتفنن في استخدام كلمة “عرب “. فالعرب حيناً “عربان ” “نعت لا مثنى”، والعرب حيناً آخر “أعراب “. والأعراب، كما هو معروف، من سكان البادية وقد وصفهم القرآن الكريم بالنفاق والكفر، ولكنهم كانوا بعض العرب، ولم يكونوا كل العرب.
وينحت، انطلاقاً من كلمة “أعراب” اسماً للوطن العربي. فالوطن العربي اسمه “اعرابيا”. والعرب ليسوا شعباً. فبعد أن كانوا في أبيات سابقة “أمة تبول فوق نفسها كالماشية” تحولوا بعد ذلك إلى “أبقار وحمير” : ملايين تجلس كالأبقار تحت الشاشة الصغيرة وقد حار كثيرون في تفسير هذه اللغة، بل في تفسير نهج شعري وفكري في مخاطبة العرب استمر ما يقرب من ثلث قرن. قال بعضهم، استناداً إلى اللغة والنهج وإلى قرائن أخرى، إن هذا “الخطاب” الموجه إلى العرب هو نسخة حديثة من خطاب قديم اصطلح الباحثون على تسميته بالشعوبية. فالحملة لا تتناول حاكما أو حكاماً بقدر ما تتناول العرب كشعب وكقوم وكأمة. إنها حملة تجرح قيما ومقومات راسخة في الضمير. إنها أشبه بملاحظات رحالة غربي أو يهودي يكره العرب لألف سبب وسبب، ولا يرى فيهم إلا ملامح القبائل الهمجية. وهذا الرحالة يهجو العرب هجاء حقيقياً لا مثيل له في عنفه وضراوته. حتى خطاب الشعوبية القديم كان أرحم في تناول العرب من خطاب نزار. ولكن جوهر الخطاب واحد وهو النيل من إنسانية العرب وكونها إنسانية منحطة غير قابلة للشفاء، والشاعر لا يقدم أي حل، لأنه لم يحسب حسابا للحلول . فالعقل منصرف لهذا التدمير السادي الذي لا لزوم أصلا للوصول إليه إذا كان الشاعر ملتصقاً فعلاً بشعبه، وعالماً أصلا بأسباب علته، وعالماً قبل كل شيء بقوانين التقدم والتخلف، وغير جاهل أولاً وأخيراً بقوانين التاريخ والحضارات.
جلد الذات
قال آخرون إنه لا يجوز تظهير صورة نزار القومية أو السياسية انطلاقاً من هذه القصائد وحدها، ففي قصائد كثيرة يبدو نزار قباني شامياً وأندلسياً وعربياً. لذلك تكون عبارة “جلد الذات” أصلح عنوان عريض لقصائد هجاء العرب التي ذكرنا. فالشاعر في حمى رغبته بالحصول على لقب “الشاعر السياسي” “بعد أن ضاق ذرعاً بلقب شاعر المرأة، أو الشاعر الذي دخل مخدع المرأة ولم يخرج منه”، كتب ما كتب وهو في ذروة الغضب على ما آلت إليه أحوال العرب، أي أحوال شعبه. لقد استخدم الكي في العلاج بعد أن يئس من استخدام العقاقير الأخرى. والكي، مهما كان من ألمه، علاج معروف في الطب، والطبيب يلجأ إليه مضطراً لا لقتل مريض، بل كوسيلة أخيرة بين يديه. فما كتبه نزار عن العرب لا ينطبق عليه وصف الشعوبية، بل وصف “جلد الذات”، وجلد الذات استخدمه شعراء كثيرون غير نزار منهم حافظ إبراهيم الذي كتب عام 1904 مخاطباً مصر:
حطمت اليراع فلا تعجبي
وعفت البيان فلا تعتبي
فما أنت يا مصر دار الأديب
ولا أنت بالبلد الطيب
هي أمة تلهو وشعب يلعبُ
ولكن يلاحظ على هذا القول أو على هذا التفسير لحالة نزار- وهو ما قال به الناقد المصري الكبير رجاء النقاش- يخلط بين “جلد الذات” و”جلد الآخر”. فإذا كان حافظ إبراهيم وقع في حالة “جلد للذات”، فإن نزار قباني جلد بما تقدم “لاذاته” بل ذات “الآخر”.
إن العربي الذي جلده نزار في شعره السياسي ليس “الذات” أي ذات الشاعر، بل “ذاتاً أخرى” انتزع نفسه منها وذلك للعنف البالغ الخالي من الرحمة الذي جلدها، ثم إن جلد حافظ إبراهيم “لذاته” أو “لمصره”، إنما يقع في باب “العتاب” أو “المداعبات”، قياسا على عنف الجلاد” الآخر الذي بدا وكأنه يجلد لا “ذات” شعبه بل “ذات” شعب آخر عدو له. فكيف نفسر بدقة حالة نزار وأين نضع شعره الهجائي هذا؟
أولا يجب الإشارة إلى أن نزار قباني شاعر لا مفكر. هو شاعر المرأة وأشياء المرأة بالدرجة الأولى، لا شاعر الأمة وقضاياها. هو عباس بن الأحنف العصر العباسي، لا المتنبي اليقظ لأحوال أمته، والواضع أذنه علي قلبها العليل والعامل على معالجتها كي تعود إلى مكانتها التي كانت لها. ثم إن هذا الشاعر لم يكن مثقفاً ثقافة سياسية من أي نوع. فلم يكن قارئاً متحجراً، ولم يكن لا قومياً ولا وحدوياً، ولا اشتراكياً ولا يسارياً. لقد كانت له قشرة ثقافية عامة أفادته في إدارة أزمته مع قصيدته ومع أنثاه. فلما فارق مدار الأصلي الأساسي هذا واتجه نحو مدار آخر يتطلب استعدادات خاصة، فقد توازنه. لقد شُبه له طيلة حياته أن “الزاوية” التي استخدمها في مخاطبة شعبه، أو في شعره السياسي، أو في تصوير العرب على الصورة التي صورهم بها، هي زاوية صحيحة، صحيحة فنياً كما، هي صحيحة شعرياً.
والغريب أنه استخدمها دون أن يزيح شعرة واحدة عنها طيلة خمسين سنة تقريبا، ودون أن يعلم أنها ستكون في يوم من الأيام نقطة ضعف أساسية في سيرته ونقطة ضعف أساسية في شعره.
شاعر قرادي!
وبلا تردد، يقول أحد النقاد العرب الكبار، يمكن وصف شعر نزار قباني السياسي، بأنه نوع من “القرادي” لا أكثر ولا أقل، والقرادي لون شعري شعبي يستخدمه شعراء الزجل في لبنان سواء في الهجاء أو في سواه. ولكن لو كان هذا اللون من الشعر قادرا على أن يرقى بصاحبه إلى أعلى المراتب، لكان الشاعر الشعبي العراقي فلان هو أمير الشعر العربي المعاصر.
أخيراً نشير إلى أن لنزار قباني قصائد غزلية جميلة يمكن أن يتشكل منها ديوان مؤلف من مائة أو مائة وخمسين صفحة، ويصدر تحت عنوان “مختارات من شعر نزار” قباني”.
ونزار قباني من حقه أن يطالب ببقائه استناداً إلى هذه المختارات التي بإمكان ناقد عارف بشعره متمتع بحس ذوقي وثقافي رفيع أن يستلها من بين ركام القصائد التي تركها الشاعر، ومن يقدم لها بمقدمة تدل على مكامن الجمال فيها. أما شعره السياسي فينبغي إهماله إهمالاً مطلقاً لرداءته. وبذلك يحسن هذا الناقد إلى الشاعر إحساناً أين منه كلمات وحفلات التأبين التي لا قيمة لها في حسابات البقاء؟